ضل الحراز: علي منصور حسب الله
في ساحة السياسة السودانية التي تعج بالتقلبات، والانقسامات، والصفقات العابرة، يبرز اسم مبارك عبد الله الفاضل المهدي كأحد أكثر الشخصيات إثارةً للجدل، لا بسبب إنجازات فارقة أو مشروع وطني واضح، بل بفضل حضوره الدائم في واجهة السلطة، سواء من داخل القصر الجمهوري أو من شرفات المعارضة. فهو إما وزير، أو عميل؛ إما مستفيد من الوضع، أو هادم للمعبد على من فيه، على طريقة شمشون الجبار، قائلاً: “عليَّ وعلى أعدائي”. لذلك، يهاجم مبارك الحركات المسلحة بحثًا عن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ليعود مجددًا إلى كراسي السلطة.
مبارك هو حفيد الإمام المهدي، وابن عبد الله الفاضل المهدي، أحد أركان البيت المهدوي والممسكين بخيوط الحركة الوطنية منذ الاستقلال. لكن السؤال الجوهري يظل قائمًا: هل ورث مبارك المجد، أم اجتهد فقط في توظيف ظلاله لتأمين موطئ قدم في مشهد لا يرحم المترددين؟
بدأ مبارك الفاضل نشاطه السياسي في صفوف حزب الأمة، قبل أن يظهر اسمه كأحد قادة المحاولة الانقلابية في يوليو 1976، التي عُرفت إعلاميًا بـ”حركة المرتزقة”، في تحالف ضمّ الجبهة الوطنية وتلقى دعماً من ليبيا. وبينما فشلت المحاولة، ظل مبارك يتنقل بين أدوار المعارضة والسلطة في مشهد لم يغادر أبدًا منطقة المراوحة والانتهازية السياسية.
انتُخب نائبًا برلمانيًا عن دائرة تندلتي عام 1986، وشغل مناصب وزارية مهمة شملت: وزارة الصناعة (1986–1988)، وزارة الاقتصاد والصناعة والتعدين (1988–1989)، ووزارة الداخلية (1989). ثم عاد لاحقًا عبر بوابة الشراكة مع نظام الإنقاذ، ليشغل منصب مساعد رئيس الجمهورية بين عامي 2002 و2004، قبل أن يُقال منه ويعود إلى صفوف المعارضة، في نمط يتكرر كلما ضاقت به دوائر السلطة.
وعندما أسّس مبارك الفاضل حزبه المنشق “الأمة – الإصلاح والتجديد” عام 2002، بمشاركة أحمد بابكر نهار، وعبد الله علي مسار، وعبد الجليل الباشا وآخرين، لم يكن الانشقاق تعبيرًا عن اختلاف فكري أو برامجي، بل خطوة محسوبة لإعادة التموضع داخل منظومة الحكم. لذلك، انسلخ منه لاحقًا كلٌّ من أحمد بابكر نهار، مؤسّسًا حزب الأمة الفيدرالي، وعبد الله علي مسار، مؤسّسًا حزب الأمة الوطني. وبدأ حزب مبارك منذ نشأته نسخة باهتة من حزب الأمة الأصل، أقرب إلى استنساخ سياسي مريض، أصيب بأعراض الشيخوخة المبكرة قبل أن يُكمل عامه الأول.
فور خروجه من الحكومة، رفع مبارك شعارات المعارضة، دون أن يطرح مشروعًا إصلاحيًا متماسكًا أو خطابًا سياسيًا يستنهض القواعد. ظل يتحرك وفق مصلحته الشخصية، معارضًا حين يُستبعد، ومشاركًا حين يُستدعى، دون رؤية استراتيجية واضحة أو قاعدة جماهيرية حقيقية.
حديث مبارك الفاضل كثيرًا ما يأتي محمّلاً بلهجة استعلائية، تنتمي إلى إرث اجتماعي متجذّر في العائلة المهدوية. وهي لهجة تعود إلى جذور قديمة، كالموقف الذي عبّر عنه الصحفي حسين شريف – ابن جدته الشريفة زينب بنت المهدي – في صحيفة حضارة السودان بتاريخ 25 يونيو 1924، تعليقًا على مذكرة ضباط ثورة اللواء الأبيض، حين قال:
“أُهينت البلاد عندما تظاهر أصغر وأوضع رجالها بأنهم المتحدثون باسم الأمة، دون أن يكون لهم مركز في المجتمع.”
واليوم، وبعد مرور قرن من الزمان، لا يزال مبارك الفاضل يرتدي جلباب أجداده، معتقدًا أن الطريق إلى السلطة يمر عبر تكرار المؤامرات القديمة التي أحبطت آمال ثورة اللواء الأبيض وغيرها من الحراكات الشعبية.
ولا عجب، فالعائلة التي اعتادت استغلال جهل البسطاء في مشاريعها الزراعية والدينية، كانت تعدّ من يعمل في أراضيها بـ”فدان في الجنة”، وكأنها وكيلة جنة الله على الأرض.
ولطالما وُصف مبارك الفاضل في الخطاب الشعبي بـ”العميل”، وهي تهمة يُستهان بها عادةً في المشهد السوداني، لكن في حالة مبارك توجد شواهد لا يمكن تجاهلها:
في تسعينيات القرن الماضي، أقرّ مبارك بقيادته لـ”جيش الأمة”، الجناح العسكري للجبهة الوطنية، والذي نفذ عمليات تخريبية استهدفت خطوط أنابيب النفط، متسببًا في خسائر اقتصادية ضخمة. وقد برّر تلك العمليات بأنها جزء من مقاومة النظام، لكنها بقيت في نظر كثيرين سابقة خطيرة في استهداف مقدرات البلاد الحيوية.
أما الأخطر، فهو ورود اسمه في تقارير إعلامية واستخباراتية شبه رسمية ضمن خلفيات الغارة الأمريكية على مصنع الشفاء للأدوية بالخرطوم عام 1998، إذ أشارت تقارير متعددة إلى أن معلومات قدّمتها شخصيات سودانية معارضة بالخارج – من بينها مبارك الفاضل – أسهمت في إقناع إدارة كلينتون بأن المصنع له صلات بالإرهاب. وقد ثبت لاحقًا زيف تلك الادعاءات، ونتج عن القصف تدمير المصنع بالكامل، متسببًا في كارثة إنسانية واقتصادية وصحية للبلاد. ورغم غياب أدلة دامغة، فإن صمت مبارك وعدم نفيه القاطع لتلك المزاعم ساعدا في تعزيز صورته كمعارض لا يتورع عن الاستقواء بالخارج حتى على حساب مصالح شعبه. نشأ مبارك الفاضل في كنف أسرة مهديّة نافذة، لكن دون أن يظهر عليه أثر نبوغ سياسي أو ابتكار فكري يميّزه عن بقية الورثة. فوالده عبد الله الفاضل المهدي، رغم عضويته في مجلس السيادة (1965–1966)، لم يُعرف عنه نبوغ يُذكر. بل ورد في توصية أكاديمية شهيرة أن:
“من مصلحة الصبي تحويل اهتمامه إلى الزراعة، لأنه ليس ذكيًا بما يكفي للاستمرار في التعليم الأكاديمي.”
هذه العبارة، القاسية في ظاهرها، تعكس هشاشة التكوين المعرفي داخل بعض العائلات السياسية التي ورثت النفوذ أكثر مما اكتسبته، وهو ما يبدو جليًا في سيرة مبارك، الذي لم يغادر عباءة ذلك النمط الأرستقراطي الطامح إلى السلطة دون مؤهلات حقيقية. فهو لم يرث سوى محدودية الذكاء فيما يبدو، لذلك يدفعه الغرور والجهل إلى مهاجمة الآخرين بحثًا عن دورٍ مفقود.
الخاتمة: غبار كثير، أثر قليل بعد عقود من العمل السياسي، ما الذي يبقى من مبارك الفاضل المهدي؟
رجل تنقّل بين المناصب والاتجاهات، قاد أحزابًا، وخاض معارك، ووقف على منصات المؤتمرات، لكنه لم يترك فكرة يُحتفى بها، ولا مشروعًا يُبنى عليه، ولا إرثًا يُحترم.
ظل يتقلب بين الحكم والمعارضة، بين واشنطن والخرطوم، وبين خطاب الوطنية ومساومات السلطة. واليوم، في زمن الثورات الشعبية وصعود جيل جديد يبحث عن المعنى لا النسب، يبدو مبارك كظلٍ ثقيل لتاريخٍ انتهى، وكصدى باهت لعائلة عظيمة فرّط أبناؤها في رسالتها الكبرى.